الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)
قد زادت ألفاظه وذهبت طلاوته، وإن كان قد أفرد المعنى في نصف بيت فإنه قد احتاج إلى زيادة مثل ألفاظه مرة أخرى توطئه له في صدر البيت ومراعاة لإقامة الوزن، وزاد في قوله فقيمة فاء مستكرهة ثقيلة لا حاجة إليها وأبدل لفظ امرئ بلفظ الناس ولا شك أن لفظ امرئ هنا أعذب وألطف؛ وغير قوله يحسن إلى قوله يحسنونه، والجمع بين نونين ليس بينهما إلا حرف ساكن غير معتد به مستوخم؛ وإذا اعتبرت ما نقل من معاني النظم إلى النثر وجدته قد نقصت ألفاظه وزاد حسناً ورونقاً ألا ترى إلى قول المتنبي يصف بلداً قد علقت القتلى على أسوارها: كيف نثره الوزير ضياء الدين بن الأثير في قوله يصف بلداً بالوصف المتقدم: وكأنما كان بها جنون فبعث لها من عزائمه عزائم، وعلق عليها من رؤوس القتلى تمائم فإنه قد جاء في غاية الطلاوة خصوصاً مع التورية الواقعة في ذكر العزائم مع ذكر الجنون؛ وهذا في النظم والنثر الفائقين ولا عبرة بما عداهما.وناهيك بالنثر فضيلة أن الله تعالى أنزل به كتابه العزيز ونوره المبين الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} ولم ينزله على صفة نظم الشعر بل نزهه عنه بقوله: {وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون} وحرم نظمه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تشريفاً لمحله وتنزيهاً لمقامه منبهاً على ذلك بقوله: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} وذلك أن مقاصد الشعر لا تخلو من الكذب والتحويل على الأمور المستحيلة، والصفات المجاوزة للحد، والنعوت الخارجة عن العادة، وقذف المحصنات، وشهادة الزور، وقول البهتان، وسب الأعراض، وغير ذلك مما يجب التنزه عنه لآحاد الناس فيكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا سيما الشعر الجاهلي الذي هو أقوى الشعر وأفحله. بخلاف النثر فإن المقصود الأعظم منه المخطب والترسل، وكلاهما شريف الموضع حسن التعليق، إذا الخطب كلام مبني على حمد الله تعالى وتمجديه وتقديسه وتوحيده والثناء عليه الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، والتذكير والترغيب في الآخرة والتزهيد في الدنيا والحض على طلب الثواب، والأمر بالصلاح والإصلاح، والحث على التعاضد والتعاطف، ورفض التباغض والتقاطع، وطاعة الأئمة، وصلة الرحم، ورعاية الذمم، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى مما هو مستحسن شرعاً وعقلاً. وحسبك رتبة قام بها النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون بعده. والترسل مبني على مصالح الأمة وقوام الرعية لما يشتمل عليه من مكاتبات الملوك وسراة الناس في مهمات الدين وصلاح الحال وبيعات الخلفاء وعهودهم، وما يصدر عنهم من عهود الملوك، وما يلتحق بذلك من ولايات أرباب السيوف والأقلام الذين تهم أركان الدولة وقواعدها. إلى غير ذلك من المصالح التي لا تكاد تدخل تحت الإحصاء ولا يأخذها الحصر.قال في مواد البيان: وقد أحست العرب بانحطاط رتبة الشعر عن الكلام المنثور كما حكي أن امرأ القيس بن حجر هم أبوه بقتله حين سمعه يترنم في مجلس شرابه بقوله: وما يروى أن النابغة الجعدي كان سيداً في قومه لا يقطعون أمراً دونه وأن قول الشعر نقصه وحط رتبته. قال: ولا عبرة بما ذهب إليه بعضهم من تفضيل الشعر على النثر إتباعاً لهواه بدون دليل واضح.قال في الصناعتين: ومع ذلك فإن أكمل صفات الخطيب والكاتب أن يكونا شاعرين كما أ، من أتم صفات الشاعر أن يكون خطيباً كاتباً. قال: والذي قصر بالشعر كثرته وتعاطي كل أحد له حتى العامة والسفلة فلحقه بالنقص ما لحق الشطرنج حين تعاطاه كل أحد. وسيأتي الكلام على احتياج الكاتب للشرع في بيان ما يحتاج إليه الكاتب فيما بعد إن شاء الله تعالى!
فإن قيل: قد كان جماعة من النساء يكتبن ولم يرد أن أحداً من السلف أنكر عليهن ذلك، فقد روى أبو جعفر النحاس بسنده إلى الحسن أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تكتب في مكاتباتها بعد البسملة: من المبرأة عائشة بنت أبي بكر حبيبة حبيب الله. وحكى جعفر بن سعيد أنه ذكر لعمرو ابن مسعدة كاتب المأمون توقيعات جعفر بن يحيى فقال: قرأت لأم جعفر توقيعات في حواشي الكتب وأسافلها فوجدتها أجود اختصاراً وأجمع للمعاني. وذكر محمد بن علي المدائني في كتاب: القلم والدواة. أن عاملاً لزبيدة كتب إليها كتاباً فوقعت في ظهره أن أصلح كتابك وإلا صرفناك عن عملك. فتأمله فلم يظهر له فيه شيء، فعرضه على بعض إخوانه فرأى فيه الدعاء لها: وأدام كرامتك، فقال: إنها تخيلت أنك دعوت عليها فإن كرامة النساء دفنهن، فغير ذلك وأعاد الكتاب إليها فقبلته؛ ومن كان هذا شأنه فكيف يقال إنه لم يؤهل للكتابة؟.فالجواب أن حديث عائشة لم يصرح فيه بأنها كتبت بنفسها ولعها أمرت من يكتب فكتب كذلك بإملائها أو دونه، وإن ثبت ذلك عنها فغيرها لا يقاس عليها، ومن عداها من النساء لا عبرة به.الصفة الثالثة: الحرية:فقد شرطوا في كاتب القاضي أن يكون حراً: لما في العبد من النقص، فلا يعتمد في كل القضايا، ولا يوثق به في كل الأحوال؛ فكاتب السلطان كذلك بل أولى كما تقدم.الصفة الرابعة: التكليف:كما في كاتب القاضي فلا يعول على الصبي في الكتابة إذ لا وثوق به ولا اعتماد عليه.الصفة الخامسة: العدالة:فلا يجوز أن يكون الكاتب فاسقاً فإنه بمنزلة كبيرة، ورتبة خطيرة، يحكم بها في أرواح الناس وأموالهم: لأنه لو زاد أدنى كلمة أو حذف أيسر حرف أو كتم شيئاً قد علمه أو تأول لفظاً بغير معناه أو حرفه عن جهته، أدى ذلك إلى ضرر من لا يستوجب الضرر، ونفع من يجب الإضرار به، وكان قد موه على الملك حتى مدح المذموم وذم الممدوح. فمتى لم يكن له دين يحجزه عن ارتكاب المآثم ويزعه عن احتقاب المحارم كان الضر به أكثر من الانتفاع، وأثر فعله من الأضرار ما لم تؤثره السيوف، ولله القائل!: وأيضاً فإنه لا يقبل قول الفاسق فتضيع به المصالح، وربما حمله الفسق وعدم الاكتراث بأمور الدين على وهن يدخله على الدين بقلمه، أو ضرر يجلبه بلسانه.وأيضاً فالكتابة ولاية شرعية والفاسق لا تصح توليته شيئاً من أمور المسلمين؛ وقد أطلق القاضي أبو الطيب والماوردي من أصحابنا الشافعية القول باشتراط العدالة في كاتب القاضي فيجب مثله في كاتب السلطان بل أولى على ما تقدم.الصفة السادسة: البلاغة:بحيث يكون منها بأعلى ربتة وأسنى منزلة؛ فإنه لسان السلطان الذي ينطق به، ويده التي بها يكتب. ورب كاتب بليغ أصاب الغرض في كتابته فأغنى عن الكتائب، وأعمل القلم فكفاه إعمال البيض القواضب، وإذا كان جيد الفطنة صائب الرأي حسن الألفاظ، تتأتى له المعاني الجزلة فيجلوها في الألفاظ السهلة، ويختصر حيث يكون الاختصار، ويطيل حيث لا يجد عن الإطالة بداً ويتهدد فيملأ القلوب روعة، ويشكر فيلقي على النفوس مسرة؛ وإن كتب إلى ملك كبير وذي رتبة خطير عظم مملكة سلطانه وفخمها في معارض كلامه من غير أن يوجد أن ذلك قصده.الصفة السابعة: وفور العقل:وجزالة الرأي، فإن العقل أس الفضائل وأصل المناقب؛ ومن لا عقل له لا انتفاع به، وكلام المرء ورأيه على قدر عقله؛ فإذا كان تام العقل كامل الرأي، وضع الأشياء في مكاتباته ومخاطباته في مواضعها، وأتى بالكلام من وجهه، وخاطب كل أحد عن سلطانه بما يقتضيه الحال التي يكون عليها، فيشتد ما كانت الشدة نافعة، ويلين حين يكون إلى اللين محتاجاً، ويوبخ من لا يقتضي فعله أكثر من التوبيخ، ويذم من تعدى إلى ما يستوجب الذم، ويأتي بالمكاتبات التي يقتضيها اختلاف الأحوال واقعة مواقعها صائبة مراميها.الصفة الثامنة: العلم بمواد الأحكام الشرعية والفنون الأدبية:وغيرها مما يأتي بيانه، إذ الجاهل لا تمييز له بين الحق والباطل، ولا معرفة ترشده إلى الطريق المعتبرة في الكتابة؛ ومن سلك طريقاً بغير دليل ضل، أو تمسك بغير أصل زل.الصفة التاسعة: قوة العزم وعلو الهمة وشرف النفس:فإنه يكاتب الملوك عن ملكه، وكل كاتب يجذبه طبعه وجبلته وخيمه في الكتابة إلى ما يميل إليه؛ ومكاتبة الملوك أحوج شيء إلى التفخيم والتعظيم، وذكر التهاويل الرائعة والأشياء المرغبة، فكلما كان الكاتب أقوى نفساً وأشد عزماً وأعلى همة، كان في ذلك أمضى وعليه أقدر، ومهما نقص في ذلك نقص من كتابته.الصفة العاشرة: الكفاية لما يتولاه:لأن العجز يدخل الضرر على المملكة ويوجب الوهن في أمر المسلمين؛ وربما عاد عليهم عجزه بالوبال، أو أدى بهم ضعفه إلى الاضطراب والاختلال.
|